آخر الأحداث والمستجدات
التسامح مع المرض : مضاد حيوي نفسي لمناهضة الوباء
" الرِّجْلُ المكسورة لا تُعالج بِجَوْرَب من حرير" / مثل إنجليزي .
منذ أن تناسلت الهزات الارتدادية لزلزال الجائحة ، و احتمى البشر تحت منضدة العزل الصحي خوفا من انهيار جدران أجسادهم و سقوطهم تحت أنقاض العافية ، و أنا حريصة على عدم الانخراط في هستيريا التوجس الحاصلة اليوم ، مُحاوِلَة تجسيم التقلبات الشارطة التي تهيكلها و تؤطرها ، خصوصا و نحن نعيش بمجتمع له طبيعة وبائية لها بصمة منفصلة -إلى حد ما - عن شواخص الوباء، واقع اجتماعي يشهد استشراء اعتلالات سيكولوجية سلطتُ الضوء عليها من خلال عدة مقالات و ندوات عن بعد ، انتعل فيها قلمي حذاءه الرياضي راكضا وراء نشر الإيجابية في صفوف متابعيه بنَفَس عقلاني عميق ، و في سباق مع الزمن سجل فيه العالم أرقام إصابات و وفيات يُندى لها الجبين ، لكنني هذه المرة سألتقط أنفاسي ، بعد أن تذوقت نصيبي من كعكة كوفيد المُرَّة و صرت حاملة للفيروس .
مبدئيا ، الوسيلة الأنجع للوقاية من الأمراض المعدية هي اتخاذ جميع التدابير الاحترازية لتفاديها ، لكن في حالة الإصابة ، هل الحل هو شن حرب على الفيروس أم التسامح معه ؟ هل جهاز المناعة البيولوجى كاف لمساعدتنا على الشفاء ؟ وهل صرامة العوامل الخارجية المنفصلة عن وعي الإنسان تقوي إيمانه بحتمية الأحداث أم العكس ؟
استفسارات تسوقنا إلى تساؤل أكثر جوهريةً : كيف يمكن للمصاب تجنب إحساس الرعب الناجم عن "الإسقاط النفسيّ Projection psychologique " لغريزة الموت الداخليّة في ظل "الذعر الإعلامي" الذي نعيشه؟
في مساق مناخ اجتماعي استثنائي يشكل محفزا كبيرا للاهتمام العلمي ، من المعروف أن الإصابات المرضية لدى الإنسان تؤدي إلى تغيرات جذرية في سلوكه مسببة أعراضا مزعجة تعكر صفو مناخه الحياتي ، تُعرَف ب "سلوكيات المرض" ، كالخمول، والاكتئاب، والقلق ، و ضعف التركيز و غيرها ، إذ تفرض عليه بروتوكولا صحيا دخيلا ، يروم صيانة الأجهزة الحيوية للجسم وتعزيز قدرته على المقاومة ، فيعمل من خلال عُصابه (و الذي يعتبره "مارتن هايدغر Martin Heidegger" بمثابة سؤال يضعه الوجودُ أمام الذات ويُفقدها ثِقتَها بنفسها بارتباطه بدافع الموت) على التكيف مع الفيروس ، فمرض الإنسان يُوَلِّد لديه شعورا باستعجال الشفاء، لكن في كثير من الأحيان ، يخفق في تحقيق ذلك بسبب رده المناعي الذي يحرض الجسم على "التأهب" كنوع من "الاستعداد الدفاعي" المتضمن لردات فعل متعاقبة و متسارعة ، ليلجأ - في حالة الإصابة - إلى دفاعات نرجسية تستر فتوره و تحجب عنه الحكم المنطقي ، و هذا ما تطلق عليه المحلّلة النفسيّة "ميلاني كلاين Melanie Klein " إسم "الدفاع الهوسي" ، و الذي تكون له نتائج وخيمة على الصحة النفسية للمصاب ، فعلى رأي "ابن سينا Avicenna " : " إنَّ قوة الفكر قادرةٌ على إحداث المرض والشفاء منه " .
بالمقابل ، هناك شريحة أخرى من المصابين - و أنا منهم - تتبع خطة علاجية مستحدثة نسبيا على مستوى التعامل السريري ، و تسمى ب«التسامح مع المرض»، يمكن اعتبارها استراتيجية نفسية - دفاعية يستعملها الجسم بصورة تلقائية تروم إهماد حدة التجاوب المناعي من خلال التزود بجرعات قوية من المضادات الحيوية النفسية كآلية للدفاع النفسي و التحكم في الضرر، مع الإنصات لرسائل الجسم و فك شيفراتها ، و أجرأة حمولتها النفسية ، وترجمتها إلى أفكار و أفعال إيجابية ميسرة للعلاج ، و هذا ما أقرته فرضية " تحمل المرض " ل "جانيل إيريس Janelle Ayres" و التي تُرجح محاولة التملص من مُسَوِّغات المرض التي داهمت البدن و مجاراتها إلى أن تتحول إلى كائنات حميدة و تتصالح تدريجيا مع الجسم المضيف عِوَضَ شن الحرب عليها .
إن الإصابة بالكوفيد – عند الأغلبية – تزيح الستار عن أعراض أوبئة أخرى خفية لا تقل مشقة عنه ، ك "وباء الفزع" كَرَدِّ فعل غريزي لاستيعاب التهديدات المتصورة و تمثلات الأفراد عن مدى جسامة الفيروس ، فهو خليط من القلق و التوهم يغذيهما الإحساس بالعجز و الهوس بعادات غير مألوفة .
لذلك ، بلور علم النفس التطوري مفهوم «جهاز المناعة السلوكى»، ذرع وقائي نفسي يعتمد فكرة أن جهاز المناعة البيولوجى لدينا ليس كافيا لإعانتنا على تجنب العدوى أو التعافي في حالة الإصابة ، بل لابد من "مضادات حيوية نفسية" - كما سبق و ذكرنا – صميمها الثقة في مُكنَة الجسم على التحمل و المكافحة ، فقد أنمى البشر ،عفويا ، ذخيرة سلوكية تعكس مدى الرضى الوجداني ، و تُبَدِّل الأزمات إلى فرص لنيل الخبرة و إيثاق النسيج المجتمعي ، مُشَكِّلة خط الدفاع الأول ضد الأمراض ، تجنبا للوقوع في "فخ هوبز"، النظرية التي تبناها الفيلسوف الانجليزي" توماس هوبز Thomas Hobbes " بعد إقراره بنظرية "الأمر الإلهي" ، منددا بأن المذهب الحقيقي لقوانين الطبيعة هو الفلسفة الأخلاقية الصحيحة ، و أن عدوى الخوف هي الأكثر ذيوعا و استفحالا بين الأفراد ، حيث تهتز أنماط علاقاتهم – بما فيها العلاقات العائلية – ، ليصير الكل موضع شك .
أيضا ، لن ننسى وباء "انعدام الثقة" ، حين يشعر المصاب بالقيود المفروضة على حريته الشخصية في ظل التباينات المتأصلة في المجتمعات ، والخصاصة إلى الاستنطاق والشفافية ، مما يعمق الهوة بين مؤسسات الدولة و المواطن .
نجد أنفسنا ، إذن ، وجهاً لوجه أمام هشاشتنا البشريّة، محجورون في أفكارنا ، فلكل منا نظام إنذار داخلي ،عليه تشغيله تأهبا لمواجهة امتحانات الحياة التي لن تنتهي ، و علينا أن نؤمن بقدرتنا المطلَقة على المجابهة داخل السياقات الاجتماعية المتعددة ، فالتماهي بين الفعل الإنساني و الحتمية القدرية يغدق على الذات أَزْرَ امتصاص ضرارة المحنة ، كي لا يظل المصاب أسير انحيازات معرفية لاعقلانية ترتكز أساسا على التأثيرات العاطفية و الاجتماعية .
ذة رجاء قيباش / شاعرة / كاتبة / إعلامية / باحثة في علم الإجتماع /كوتش أسري و تربوي / مدربة معتمدة في التنمية الذاتية .
الكاتب : | ذة رجاء قيباش |
المصدر : | هيئة تحرير مكناس بريس |
التاريخ : | 2020-10-11 16:48:32 |